فضيلة العلامة المحدث محمد ناصر الدين الألباني : إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلن تجد له وليًا مرشدًا . أما بعد : فإن خير الكلام كلام الله ، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار .
السؤال : ما رأيكم في هذه العبارة التي قررها كاتب إسلامي كبير ، قال هذا الكاتب : ( والبدعة الإضافية والتركية ، والالتزام بها في العبادات المطلقة خلاف فقهي ، لكل فيه رأيه ، ولا بأس بتمحيص الحقيقة بالدليل ) !؟
الجواب : جوابًا على هذه العبارة .
أقول : لاشك أن المسائل الخلافية ينبغي ألا يشتد الخلاف فيها ، بحيث أن المختلفين يتخاصمون من أجل الخلاف ؛ ذلك لأن الخلاف أمر طبيعي ، أي : من السُنن الكونية التي فرضها الله - عز وجل - على الناس فرضًا ، ولو استطاعوا أن يكونوا كلهم على فكرة واحدة ورأي واحد لاستحال ذلك عليهم ، لكن ليس مستحيلاً أبدًا أنهم حينما يختلفون فيما لابد من الاختلاف فيه ، ألا يحملهم هذا الاختلاف على التباغض والتباعد ، والخصام والتعادي ، فهذا بالإمكان ألا يقعوا فيه ، وأسوتهم في ذلك أصحاب النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - ، وهم كما سمعتم في الحديث السابق : ( خير الناس قرني ) .
فهم خير الناس من بعد الرسول - عليه الصلاة والسلام - ، وإخوانه من الأنبياء المتقدمين .
فأقول : إن هؤلاء الصحابة اختلفوا في مسائل كثيرة ، ولكن نلاحظ أن هذا الاختلاف لم يتعد الخلافات التي يسمونها بالفروع الفقهية ، ولم يتعد إلى الاختلافات الاعتقادية الفكرية ، وهذا من فضل الصحابة .
فهؤلاء لما اختلفوا في بعض المسائل الفقهية لم يعاد بعضهم بعضًا ، مثلاً : منهم من تمسك بقول الإمام أبي حنيفة ، فقال : خروج الدم ينقض الوضوء .
وفيهم من تمسك بقول الإمام الشافعي ، فقال : مس المرأة ينقض الوضوء . ونحو ذلك من الاختلافات ، ولكن هل وصل الأمر بذاك الصحابي الذي يرى بأن خروج الدم ينقض الوضوء باجتهاد منه ، ألا يصلي وراء أخيه الصحابي الذي يراه توضأ ثم خرج منه دم ولم يعد الوضوء كما نفعل نحن اليوم !؟
الجواب : لا والله ، لم يؤدِ بهم الاختلاف إلى هذا الشقاق وهذا التنازع والتنافر .
إذًا : إذا كان لابد من الاختلاف ؛ لأن الله فرض ذلك على الناس ، بسبب أنه جعل لكل منهم طاقة فكرية وعلمية خاصة به ، تختلف عن طاقات الآخرين .
نقول : هذا الخلاف أمر طبيعي وفطري لابد منه ، ولكن ينبغي ألا يكون هذا الاختلاف سببًا للنزاع والشقاق ، ومنه هذا الذي نهى عنه ربنا - عز وجل - في قوله : ( وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ) . [ الروم : 31 - 32 ] .
هذا الذي نهى عنه ربنا - عز وجل - ، لكن لم ينه أن الإنسان لاجتهاده إذا وصل إلى رأي خالف فيه رأي الآخر ، ولم يصدم برأيه نصًا ، كما يفعل المتأخرون المقلدون اليوم . هذه ضابطة لابد منها قبل الدخول للإجابة عن السؤال مباشرة .
ضابطة أخرى : الذين قد يختلفون من هم !؟
هذه نقطة مهمة جدًا لنفهم الجواب عن هذا السؤال .
إن الكاتب المشار إليه يقول : ( البدعة الإضافية والتركية والالتزام بها في العبادات المطلقة خلافٌ فقهي ) .
الخلاف الفقهي هل هو إذا كان هناك مجتهد - بل مجتهدون - لهم رأي متفقون عليه ، ثم جاء بعض المقلدين فبنوا رأيًا لهم ، ثم جاء بعض المتأخرين فقالوا : الخلاف فقهي .
وهذا تعبير غير علمي صحيح ، فالخلاف الفقهي هو الذي يكون مداره بين الأئمة المجتهدين ، الذين هم في أنفسهم - قبل أن يشهد لهم الناس - يشعرون بأنهم قد بلغوا من المنزلة في العلم تمكنهم بأن يقول أحدهم : أنا أرى كذا ، أنا أفهم كذا .
ثم شهد الناس - فيما بعد - لهم بأنهم قد وصلوا هذه المرتبة ، وهذه الشهادة ليست هي التي بررت لهم ذلك ، وإنما هذه الشهادة تكشف عن حقيقة ما وصلوا إليه من المرتبة في العلم .
أما إذا كان الذين اختلفوا ، أو خالفوا ليسوا من المجتهدين في واقع أنفسهم ، بل هم يصرحون للناس بأنهم ليسوا كذلك ، بل وأكثر من ذلك يفخرون بأنهم ليسوا مجتهدين ، وإن كانوا لا يفصحون هذا الإفصاح ، لكننا إذا فسرنا قول بعضهم حينما يفخرون بأنهم مقلدون ، فتفسير ذلك أنهم يفخرون بأنهم غير مجتهدين ، ولا فرق حين ذلك في التعبير إلا فرقًا لفظيًا ، كذلك الفرق على مذهب الحنفية ، أو عند الحنفية ... المعنى واحد .
فهؤلاء الذين يفخرون بأنهم مقلدون ، ذلك يساوي أنهم يفخرون بأنهم غير مجتهدين ، وهذا يساوي في نهاية المطاف أنهم يفخرون بأنهم غير علماء ، وهذا يساوي أنهم جهال .