الخامس: أن التوحيد هو أول ما يجب على الدعاة أن يفتتحوا به دعوتهم كما قال تعالى: (فاعلم أنه لا إله إلا الله) وقال صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل عندما أرسله إلى اليمن: (فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله).
وهو أول واجب على العبد تعلمه وتفهمه، حتى يؤسس العبد بنيانه على تقوى من الله من أول يوم، وهذا هو قول السلف من الصحابة والتابعين وأئمة العلم والدين، خلافاً لمن قال إن أول واجب على المكلف هو النظر، أو القصد إلى النظر أو الشك كما قال ذلك من لم يعرف بعثة الرسل.
السادس: أنها شرط لقبول الأعمال الصالحة في الدنيا، فلا يقبل الله من العباد أعمالهم وقرباتهم إلا بالتوحيد، فهو سبحانه يقبل من الموحد عمله الصالح وإن كان قليلاً، ولا يقبل عمل المشرك وإن كان كثيراً.
قال تعالى: (وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثوراً) وقال: (مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء ذلك هو الضلال البعيد) وقال: (والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا وجده لم يجده شيئاً ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب) وقال: (ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين) وقال: (ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون).
السابع: أنه شرط لدخول الجنة في الآخرة، كما قال تعالى: (ومن عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب) وقال: (إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار) وفي "صحيح مسلم" عن أبي هريرة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر منادياً أن ينادي: إنه لن يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة).
الثامن: أنه محل الولاء والعداء، فمن كان من أهله واليناه ومن كان من أعدائه عاديناه، وتأمل ما الذي جعل النبي صلى الله عليه وسلم يقرب بلالاً الحبشي وسلمان الفارسي، ويباعد أبا طالب وأبا لهب وهما من أقرب الناس إليه ؟! وهل سبب هذا إلا التوحيد ؟!
قال تعالى: (لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آبائهم أو أبنائهم أو إخوانهم أو عشيرتهم)، ولذلك لا بد من مفاصلة بين أهل الإيمان وأهل الكفر، وأهل التوحيد وأهل الشرك، في كل شيء قولاً وفعلاً.
المبحث الثاني: أثر التوحيد على المجتمع والفرد:
1- أثره على المجتمع:
للتوحيد أثر عظيم وثمار طيبة مباركة على المجتمع، فمن ذلك:
الأول: أن الدعوة إلى التوحيد، ومحاربة الشرك هو سبب الأمن والأمان في المجتمع كما قال تعالى: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون) والظلم هنا هو الشرك كما فسره من هو أعلم الناس بكتاب الله صلى الله عليه وسلم، وقال تعالى: (وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون) وقال تعالى: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً).
الثاني: أنه سبب العزة والتمكين والاستخلاف كما تدل عليه الآية السابقة، وهذا التمكين لا يكون لمن أراد أن يصلح نفسه فقط، بل لمن سعى في تطهير المجتمع من أدران الشرك وأقذاره، وبعبارة أخرى: إن هذا الوعد لا يناله إلا الموحدون الذين تعدى نفعهم إلى غيرهم.
الثالث: انفتاح أبواب الرزق والبركات كما قال تعالى: (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض)، وإنما يحصل لهم من الرزق بقدر توحيدهم وإيمانهم بالله وتقواهم له.
2- أثره على الفرد:
وأثر التوحيد على المسلم في نفسه وأخلاقه وطباعه بل ومصيره وعاقبته كبير وعظيم، ويكفي في هذا المقام أن نذكر شيئاً من آثاره، فمن ذلك:
الأول: أنه سبب مغفرة الذنوب، كما قال تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء).
وقد روى الترمذي وحسنه والحاكم وصححه وغيرهما عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يجاء يوم القيامة برجل من أمتي على رؤوس الخلائق فينشر له تسعة وتسعون سجلاً كل سجل منها مد البصر ثم يقول الله تعالى له أتنكر من هذا شيئا فيقول لا يارب فيقول الله عز وجل ألك عذرا أو حسنة فيهاب الرجل فيقول لا يارب فيقول الله تعالى بلى إن لك عندنا حسنات و أنه لا ظلم عليك فتخرج له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله و أشهد أن محمداً رسول الله فيقول يارب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات فيقول أنك لا تظلم قال فتوضع السجلات فى كفة و البطاقة فى كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة).
قال شيخ الإسلام كما في "مجموع الفتاوى" (10/735): (فهذا لما اقترن بهذه الكلمة من الصدق والإخلاص والصفاء وحسن النية، إذ الكلمات والعبادات وإن اشتركت فى الصورة الظاهرة فإنها تتفاوت بحسب أحوال القلوب تفاوتاً عظيماً).
وقال ابن القيم في "مدارج السالكين": (وتأمل حديث البطاقة التي توضع في كفة ويقابلها تسعة وتسعون سجلاً كل سجل منها مد البصر فتثقل البطاقة وتطيش السجلات فلا يعذب ومعلوم أن كل موحد له مثل هذه البطاقة وكثير منهم يدخل النار بذنوبه ولكن السر الذي ثقل بطاقة ذلك الرجل وطاشت لأجله السجلات: لما لم يحصل لغيره من أرباب البطاقات انفردت بطاقته بالثقل والرزانة).
والقول بأن التوحيد سبب لمغفرة الذنوب هو قول أهل السنة وحدهم، ومن قال بقولهم فإنما هو تابع لهم، وذلك لأن أهل السنة يرون أن للتوحيد فضلاً على أصحابه، فقد يغفر للعاصي لتوبة صادقة، أو حسنات ماحية، أو شفاعة مقبولة، أو غيرها من أسباب مغفرة الذنوب، خلافاً للخوارج والمعتزلة الذين يرون أن الذنوب لا تغفر إلا بالتوبة فقط.
الثاني: أنه الموجب لانبعاث الأعمال الصالحة، أي السبب الذي يدفع المؤمن إلى الأعمال الصالحة والإكثار منها، والتقرب إلى الله بها.
قال ابن القيم في "الفوائد" (ص203): (والإخلاص والتوحيد شجرة في القلب فروعها الأعمال وثمرها طيب الحياة في الدنيا والنعيم المقيم في الآخرة، وكما أن ثمار الجنة لا مقطوعة ولا ممنوعة فثمرة التوحيد والإخلاص في الدنيا كذلك. والشرك والكذب والرياء شجرة في القلب ثمرها في الدنيا الخوف والهم والغم وضيق الصدر وظلمة القلب، وثمرها في الآخرة الزقوم والعذاب المقيم وقد ذكر الله هاتين الشجرتين في سورة إبراهيم) أ.هـ