الثالث: هو تفريج الكروب في الدنيا والآخرة.
قال ابن القيم في "الفوائد" (ص79): (التوحيد مفزع أعدائه وأوليائه، فأما أعداؤه فينجيهم من كرب الدنيا وشدائدها (فإذا ركبوا فى الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون).
وأما أولياؤه فينجيهم به من كربات الدنيا والآخرة وشدائدها ولذلك فزع إليه يونس فنجاه الله من تلك الظلمات وفزع إليه اتباع الرسل فنجوا به مما عذب به المشركون في الدنيا وما أعد لهم فى الآخرة، ولما فزع إليه فرعون عند معاينة الهلاك وإدراك الغرق له لم ينفعه لأن الإيمان عند المعاينة لا يقبل هذه سنة الله في عباده.
فما دفعت شدائد الدنيا بمثل التوحيد ولذلك كان دعاء الكرب بالتوحيد ودعوة ذي النون التي ما دعا بها مكروب إلا فرج الله كربه بالتوحيد فلا يلقى في الكرب العظام إلا الشرك ولا ينجي منها إلا التوحيد، فهو مفزع الخليقة وملجؤها وحصنها وغياثها وبالله التوفيق) أ.هـ
الرابع: هو سبب الثبات بالقول الثابت في القبر كما قال تعالى: (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا والآخرة) وجاء في "الصحيحين" عن البراء بن عازب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المسلم إذا سئل فى القبر يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، فذلك قوله: (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت فى الحياة الدنيا وفى الآخرة).
وفي "صحيح مسلم" (17/204- نووي) عن البراء بن عازب "يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت فى الحياة الدنيا وفى الآخرة" قال نزلت فى عذاب القبر).
الخامس: وسبب النجاة من الخلود في النار، فقد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الموحدين يخرجون من النار خلافاً للخوارج والمعتزلة.
قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (7/486): (وأيضاً فقد تواترت الأحاديث عن النبي في أنه يخرج أقوام من النار بعد ما دخلوها وأن النبي يشفع في أقوام دخلوا النار، وهذه الأحاديث حجة على الطائفتين: "الوعيدية" الذين يقولون: من دخلها من أهل التوحيد لم يخرج منها، وعلى "المرجئة" الواقفة الذين يقولون لا ندري هل يدخل من أهل التوحيد النار أحد أم لا ؟) أ.هـ
السادس: أن أهل التوحيد سعداء في الدنيا والآخرة كما قال تعالى: (من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون).
السابع: أن لهم الأمن في الدنيا والآخرة، فإن المشرك يحصل في قلبه من الخوف والرعب في الدنيا والآخرة بسبب شركه ما لا يحصل في قلب العبد الموحد.
أما في الدنيا فقد قال تعالى: (سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به عليهم سلطاناً) وقال تعالى عن إبراهيم: (وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطاناً).
وكذلك في الآخرة حيث أخبر ربنا أن الموحدين يحصل لهم الأمن التام يوم القيامة بسبب توحيدهم، قال ربنا: (إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون0لايسمعون حسيسها وهم فيما اشتهت أنفسهم خالدون0لا يحزنهم الفزع الأكبر) وقال: (إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا0فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسروراً) وقال: (فذلك يومئذ يوم عسير0على الكافرين غير يسير) وقال: (من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون) وقال: (أفمن يلقى في النار خير أم يأتي آمناً يوم القيامة) وقال: (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة أن لا تخافوا ولا تحزنوا).
وفضائل التوحيد كثيرة، وإنما ذكرنا شيئاً يسيراً منها يقتضيه المقام.
المبحث الثالث: أسباب ذكر فضل التوحيد:
وهذه الأدلة التي سقناها، والفضائل التي ذكرناها إنما نذكرها ويذكرها أهل العلم لعدة أسباب يمكن تلخيص بعضها بما يلي:
1- ليبينوا ما تدل عليه كلمة التوحيد من علو المكانة، وعظيم الأثر، ليعرف الناس منزلة هذا الأمر من الدين، ومنزلة أهله العاملين به والداعين إليه.
2- لتطمئن قلوب الموحدين لهذا التوحيد، ولتزداد حباً له، وتزوداً منه، وتعمقاً فيه، وشوقاً إلى ثوابه، وهذا لأهل التوحيد فقط.
وأما من لم يكن من أهل التوحيد فعسى أن تؤثر فيه هذه الفضائل وتحرك دواعي الشوق إلى الهجرة إلى الله ورسوله، فينضم إلى أهله فيلحق بركابهم، ويسير في طريقهم.
3- مخالفةً للوعيدية الذين لا يرون أي أثر للتوحيد على أهله العاملين به، فهم يرون أنه لا يجتمع توحيد ومعصية، بل التوحيد عندهم أضعف من أن يقدر على إذهاب المعصية من قلب العبد، وعندنا أن التوحيد أعظم من أن تقدر المعصية على إزالته وإذهاب أثره، بل هو الذي يذهب أثرها ويزيل نجسها، فهذا هو الفارق بيننا وبين "الوعيدية".
4- لبيان سعة رحمة الله، وعظيم فضله، وجزيل عطائه، ويظهر هذا من وجوه لمن تأملها.
5- لئلا يتعجل المتعجل في تبشير العاصي المصر على المعصية ولو مات عليها وختم له بها، فما ندري ماذا يكون له عند الله من الأعمال ؟!
المبحث الرابع: أثر الشرك على أهله:
فساد العقيدة له ثمار مريرة، وآثار خطيرة وكثيرة، منها أنها تؤدي إلى فساد العقل والقلب بل والأخلاق والطباع، ولذلك فإن المشرك من أفسد الناس عقلاً وإن ظهر أنه من أذكى الناس، فالأمر كما قال الله تعالى: (وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير)، وهو في الوقت نفسه من أفسد الناس قلباً وأبعدهم عن الله جل وعلا، والدلائل على ذلك كثيرة.
ونذكر هنا قصةً لطالب مسلم يدرس في "كلية" من جامعات "الهند" على بروفيسور من عباقرة الأساتذة، دخل عليهم الأستاذ ليلقي المحاضرة، وبعد الانتهاء من المحاضرة يقترب الطالب من المدرس ليلقي عليه بعض الإشكالات التي واجهته، فيفاجأ بريحة عفنة تصدر من الأستاذ !! فقال له الطالب: (ما هذا يا أستاذ ؟! فقال له: هذه ريحة بول الآلهة) أي البقرة !!
فالدكتور لا يخرج إلى الكلية إلا وقد تلطخ ببول البقرة تبركاً، ووقايةً من الأعين!! ولا يجد في ذلك أدنى خجل، ولم يجد غضاضة من أن يصرح لهذا الطالب بالحقيقة، وهذا الشيء لا يتردد في استنكاره عندنا الشخص الأمي الذي يعيش في أرياف المسلمين.
فهذه البقرة خلقها الله لابن آدم، وخلق له ما فيها من اللحم واللبن والجلود وغير ذلك، ثم يسخر نفسه عبداً لهذه النعمة !! وكم تموت من الأبقار في الهند يومياً دون أن يستفاد منها مع أن الهند من بلاد المجاعات.
بل فساد المعتقد جرّ الإنسان إلى أن يعبد الفأر، ويجعله نداً لله في العبادة !! وهناك ثلاثة آلاف وثن يعبد من دون الله في "الهند" وحدها فقط، ما بين بقرة وفأر وغيرهما، حتى الفروج تُعبد من دون الله !! في عصر قفزت فيه التكنولوجيا إلى أرقى المستويات، نسأل الله السلامة والعافية.
والعقيدة الفاسدة لها أثر كبير على القلوب من حيث القوة والضعف، فالفارس الشجاع الذي لا يبارى في المعارك، يخاف من أحقر الأشياء، بل من أشياء وهمية لا حقيقة لها، وربما يضعف أمام غيره من الجن وغيرهم، ويصرف لهم أغلى ما يملك، ويظن أنهم يقدمون ويؤخرون.
والخلاصة أن المشرك من أفسد الناس عقلاً وقلباً، وأخبثهم طبعاً، وأسوأهم أخلاقاً.
الفصل الثاني: في الدعوة إليه:
المبحث الأول: كيفية الدعوة إلى التوحيد:
1- الدعوة إلى التوحيد تجب على الجميع:
الدعوة إلى التوحيد تجب على أهل التوحيد كلهم، وتجب على كل واحد بحسب مقدوره واستطاعته.
قال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي في "القول السديد": (وإذا كانت الدعوة إلى الله وإلى شهادة أن لا إله إلا الله فرضاً على كل أحد، كان الواجب على كل أحد بحسب مقدوره، فعلى العالم من بيان ذلك والدعوة والإرشاد والهداية أعظم مما على غيره ممن ليس بعالم، وعلى القادر ببدنه ويده أو ماله أو جاهه وقوله أعظم مما على من ليست له تلك القدرة.
قال تعالى: (فاتقوا الله ما استطعتم) ورحم الله من أعان على الدين ولو بشطر كلمة، وإنما الهـلاك في ترك ما يقدر عليه العبد من الدعوة إلى هذا الدين) أ.هـ
2- يجب تكرير وتنويع وتفصيل الدعوة إلى التوحيد:
لا يكفي فيها أن يتكلم الداعية عن التوحيد المرة والمرتين والثلاث، وذلك لعدة أسباب:
أولاً: لأن التوحيد أصل العلوم وبابها، ومنزلته من البدن كمنزلة الرأس من سائر الجسد، وكل العلوم إنما تكون بعده في المنزلة والمرتبة، فلا بد أولاً من إقامته وتصحيحه وتنقيحه وتنقيته.
ثانياً: لأن هذا حق الله تعالى فهو أعظم الحقوق على الإطلاق وكل الحقوق كحق الوالدين وحق الجار وحق ولاة الأمر ونحو ذلك، إنما هي متفرعة من هذا الحق العظيم.
ثالثاً: ثم إن مسائله كثيرة ومتشعبة، وتطبيق الناس له وعملهم بأفراده وآحاده يحتاج إلى وقت طويل وعمل ليس بالقليل، فإذا كانت الدعوة إلى أصله والدخول فيه يحتاج إلى وقت ليس بالقليل فكيف بما بعد ذلك ؟! فقد قال الله عن نوح عليه الصلاة والسلام: (رب إني دعوت قومي ليلاً ونهاراً0فلم يزدهم دعائي إلا فراراً0وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكباراً0 ثم إني دعوتهم جهاراً0ثم إني دعوتهم وأعلنت لهم وأسررت لهم إسراراً).
وإنني أعجب أشد العجب ممن ينتسب إلى السنة – وهو ليس من أهلها – كيف يتشدق بالدعوة إلى التوحيد ثم ترى نصيب التوحيد من دعوته هزيلاً لا يكاد يذكر، وإن تكلم عن التوحيد يتكلم بكلمات عامة ومجملة لا يكاد يبين، فيخرج الناس من دروسه بعد أمد طويل لا يكادون يفقهون بعض صور التوحيد ونواقضه !!.
فالدعوة إلى التوحيد تحتاج إلى دروس خاصة يفهم بها الطلاب تفاصيل التوحيد وجزئياته، وتحتاج إلى خطب في الجمعة ومحاضرات في غير الجمعة يفهم بها العوام حقيقة التوحيد ولو بالصورة العامة، ويتعرض فيها الداعية لما يجد – بتشديد الدال المهملة - من منكرات مناقضة لأصل التوحيد، أو لكماله كالزيارة الشركية أو البدعية للقبور، وتعلق بغير الله ونحو ذلك، مع التنبيه على بعض الألفاظ أو غيرها من الأشياء في المجالس العامة والخاصة.