المبحث الثاني: حاجة الداعية إلى التوحيد إلى العلم:
تقرير التوحيد وشرح مسائله والردود على المخالفين فيه يحتاج إلى قوة في العلم وجودة في الأسلوب ووضوح في العبارات، لأنه من أصعب الأمور وأدقها، والغلط فيها من أسوأ الأغلاط وأقبحها، وهذا يدفع طالب علم التوحيد إلى قراءة الكثير من كتب التوحيد ومطالعة كلام أهل العلم في جميع الأبواب، سواء كان منها ما يتعلق بتقرير التوحيد، أو الردود أو الفتاوى، ويدفعه كذلك إلى التواصل مع أهل العلم بوضع الإشكالات عليهم والإفادة منهم، وتتبع الجديد من المطبوعات في هذا الفن، هذا مع طول زمن وشدة حرص على الفائدة، ولاشك أن من كان هذا دأبه سيصل إلى المطلوب بتوفيق الله وتسديده.
المبحث الثالث: أخلاق أهله:
لا ينبغي على الداعية أن يغفل عن مسألة مهمة جداً وهي أنه لا يستطيع أن يصل إلى قلوب الناس فيصحح ما يستطيع من الأخطاء ويغير ما يقدر عليه من المنكرات إلا بصلاح سريرته فيما بينه وبين الله، وحسن خلقه، وحكمته في الدعوة إلى الله فيما بينه وبين الناس، لأن الحق لا يصل وحده ما لم يكن معه حسن خلق وكمال حجة يقدر بها الداعية إلى الله أن يوصل الحق الذي عنده إلى الناس، ويخرج ما في قلوبهم من المنكرات وسوء المعتقدات.
ولذلك قامت الحجة على مشركي العرب بل والعجم بدعوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فقد عرفه القاصي والداني، والقريب والبعيد بأخلاقه العظيمة، وأدبه العالي، كلهم قد عرفوا صدقه وأمانته، وكرمه وتواضعه، وحسن خلقه وجميل عشرته، صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي.
وكم من داعية إلى التوحيد كان وبالاً على دعوته بطيشه وتهوره وعدم حكمته، فهو فيها معول هدم في الوقت الذي يظن في نفسه أنه أداة بناء، ويسيء إلى الدعوة بما يغني الأعداء عن تشويهها بين الناس، إما بأكل الأموال أو تطاوله على الأعراض، أو بتهافته على الدنيا وحطامها، أو بنحو ذلك.
فكم من داعية إلى التوحيد وخلقه يصد عن الدعوة إلى التوحيد فإن لله وإنا إليه راجعون، وأقل أضرار هؤلاء الدعاة أنهم يفقدون دعوة التوحيد منزلتها الحقيقية في أعين الناس ونفوسهم، هذا إذا لم يلحق عوام الناس بالدعوات المخالفة لدعوة التوحيد.
وحسن أخلاق الداعية وسوء أخلاقه له أثر عظيم على دعوته سلباً وإيجاباً، ولذلك نجد كثيراً من الناس يفتتن بالدعاة إلى الباطل إذا وجد عنده الكلام المعسول والكرم المصطنع.
وأهل التوحيد هم خير الناس خلقاً وأفضلهم أدباً، فهم أولى الناس وأجدرهم بهذه الآداب العظيمة، والأخلاق العالية، فينبغي على دعاة التوحيد أن يكونوا صوارم مهندة على أعداء التوحيد، ورحمة مهداة إلى الناس لإخراجهم من الظلمات إلى النور بالكلمة الطيبة، والأسلوب الحسن.
الفصل الرابع: في شبهات تثار حول الدعوة إلى التوحيد:
أعداء التوحيد وخصومه لا يزالون يكيدون له ولأهله، ويصدون عنه بكل ما أوتوا من الأموال والجاه، وهؤلاء لهم شبهات فعسى أن يأتي وقت نذكر فيه شبهاتهم في "باب التوحيد" مع الأجوبة عنها.
وهناك آخرون هم من أجهل الناس بدعوة الرسل وأبعد الناس عنها، ليسوا من الدعاة إلى الشرك، لكنهم أثاروا على دعوة التوحيد شبهاً متهافتة يثبطون بها عن الدعوة إلى هذا الأصل العظيم، ويطلبون من الناس أن يتوجهوا إلى شيء هو أبعد ما يكون عن دعوة الرسل، وقد جعلنا لكل شبهة من شبهات هؤلاء مبحثاً خاصاً نختصر فيه الكلام اختصاراً لا يخل بالمراد.
المبحث الأول: قولهم: إن دعوة التوحيد إنما تكون في المجتمعات الكافرة،
فهل أنتم بين كفار عندما تدعون الناس إلى التوحيد في هذه المجتمعات ؟!
والجواب عن ذلك أن يقال: إن هذا كلام جاهل بالدعوة إلى التوحيد، ولاسيما بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم، فإن دعوة النبي صلى الله عليه وسلم إلى التوحيد كانت على ضربين:
الأولى: دعوة لإدخال الناس في التوحيد، وإخراجهم من ظلمات الشرك، وهذا إنما يكون مع المشركين كما هو الحال في دعوة الأنبياء وأممهم، وكما حصل لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم في العهد المكي، وكما حصل له صلى الله عليه وسلم عندما أرسل معاذاً إلى أهل اليمن ليدعوهم إلى التوحيد.
والثانية: دعوة إلى التوحيد لإتمامه وإكماله، وهذا قد حصل في المجتمع المدني، فقد كان صلى الله عليه وسلم يعلمهم التوحيد وما تفرع منه، وينهاهم عن نواقضه ومفسداته، مع أنهم أعرف الناس بالله تعالى ودينه وشرعه رضي الله عنهم، وقد كان صلى الله عليه وسلم ينهاهم عن جميع مفسدات التوحيد القولية والعملية، سواء ما كان يتعلق بمظاهره أو بمقاصده.
وقد بقي صلى الله عليه وسلم على هذا الأمر إلى آخر لحظات حياته صلى الله عليه وسلم، ففي آخر لحظات حياته ينهاهم عن اتخاذ قبور الأنبياء مساجد، ويحذرهم مما صنع أهل الكتاب بقبور أنبيائهم وصالحيهم.
فالناس في المجتمعات على صنفين:
الصنف الأول: أناس كانوا على شرك، والصنف الثاني: ليسوا كذلك، والصنفان من الناس محتاجون إلى معرفة التوحيد بجميع تفاصيله.
أما الصنف الأول فمن الغلط أن نظن أن من قال: لا إله إلا الله فقد انخلع ما في قلبه من رواسب الجاهلية وأدران الشرك بمجرد أن ينطق بها بعد أن عاش أعواماً على الشرك بجميع أصنافه، لأن هذا النطق لوحده لا يكفي، بل الواجب على العبد أن يحرص - مع قوله لهذه الكلمة - على معرفة معناها، وتجنب مفسداتها ونواقضها، لأن مجرد النطق بكلمة التوحيد دون معرفة معانيها لا توصل العبد إلى العبودية التي يحبها الله، والتي خلق الخلق لأجلها.
وأما الصنف الآخر من الناس فهؤلاء هم أيضاً محتاجون إلى معرفة تفاصيل التوحيد وتعلمه وتفهمه، لأن النطق بهذا الكلمة ولو مع سلامة الفطرة لا تكفي لعصمتهم مما سيأتيهم من أنواع الضلال المناقضة للتوحيد، فكانوا بحاجة إلى ما ذكرناه والله الموفق.
فالدعوة إلى التوحيد في المجتمعات الشركية: دعوة تصحيح وتأصيل، والدعوة في المجتمعات الإسلامية: دعوة إتمام وتكميل.
المبحث الثاني:
قولهم: إن الدعوة إلى التوحيد تفرق الصف، وتبلبل الأفكار:
أقول: لا أدري كيف ألقى الشيطان هذه الكلمة على لسان صاحبها، وكيف استساغ أن يقول مثل ذلك على دعوة التوحيد الذي هو حق الله على العبيد، والتي هي دعوة الرسل، فهل دعوة الناس إلى حق الله يفرق الناس، وهل كان الرسل يشتغلون بما يفرق جمع الناس، ويشتت أمرهم ؟!!
وإذا أردت أن تعرف بطلان هذا المقالة الشنيعة فاعقد مقارنة بين ما كان عليه العرب من الفرقة في الجاهلية، وكيف أصبحوا متآلفين بنعمة الله جل وعلا بعد مجيء الاسلام والتوحيد، فنبينا محمد صلى الله عليه وسلم قد جاء إلى أمة ممزقة في كل شيء، فلكل قبيلة صنم تعبده كما قال تعالى: (ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم)، وجاء على أمة متناحرة متفرقة، يأكل القوي فيها الضعيف، ولكل قبيلة أعرافها وعاداتها، لا يجمعهم شيء، ولا يجتمعون على أمير واحد وهذه من أعظم صفات ذلك المجتمع، فجمعهم الله بهذا النور والهدى، وهذا الإسلام العظيم الذي هو أعظم نعم الله عليهم، فاجتمعوا على اختلاف ألسنتهم وألوانهم وبلدانهم وقبائلهم، حتى صاروا أمة واحدة بعد فرقة، وقوية بعد ضعف، كما قال تعالى: (واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً)، فهذا شيء يسير من بركات التوحيد على أهله والمستمسكين به، فالتوحيد يجمع ولا يفرق، ويؤلف ولا يشتت، والذي يشتت هو الشرك، وكذلك الابتداع في الدين التي هو من أعظم فروع الشرك.
وأما استدلالهم بقوله تعالى على لسان هارون: (إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي) فقد استدلوا بهذه الآية على أن هارون ترك الإنكار على بني إسرائيل خشية الفرقة والاختلاف. والجواب: أن الآية ليست كما يفسرها هؤلاء، وإنما لها تفسير آخر عند أهل العلم، فقد نقل ابن جرير اختلاف المفسرين في معنى هذا اللوم الذي لام به موسى أخاه هارون عليهما الصلاة والسلام، حيث قال ابن جرير الطبري في "تفسيره": (واختلف أهل التأويل في المعنى الذي عذل موسى عليه أخاه من تركه اتباعه) ثم ذكر أقوالاً، منها أنه عذله لما لم يلحقه في السير بمن أطاعه، على ما كان عهد إليه من قبل، وهذا قول ابن عباس وهو الصحيح وهو الذي رجحه ابن جرير فقال: (قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب، القول الذي قاله ابن عباس من أن موسى عذل أخاه هارون على تركه اتباع أمره بمن اتبعه من أهل الإيمان، فقال له هارون: إني خشيت أن تقول، فرّقت بين جماعتهم، فتركت بعضهم وراءك وجئت ببعضهم، وذلك بين في قول هارون للقوم (يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري) وفي جواب القوم له وقيلهم (لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى) أ.هـ
وقال ابن سعدي في "تفسيره": (فإنك أمرتني أن أخلفك فيهم، فلو تبعتك لتركت ما أمرتني بلزومه وخشيت لائمتك و(أن تقول فرقت بين بني إسرائيل) حيث تركتهم وليس عندهم راع ولا خليفة فإن هذا يفرقهم ويشتت شملهم) أ.هـ
وأما قول من قال: (بل عذله على تركه أن يصلح ما كان من فساد القوم) فهذا قول ضعيف لأمور: الأول: أن هارون قد أنكر عليهم فعلهم ذلك، فقد قال تعالى: (ولقد قال لهم هارون من قبل يا قوم إنما فتنتم به، وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري) ؟!!
قال ابن كثير في "تفسيره": (يخبر تعالى عما كان من نَهْي هارون عليه السلام لهم عن عبادة العجل، وإخباره إياهم أنما هذا فتنة لكم) أ.هـ
فهارون قد أنكر عليهم عبادتهم العجل، وهل يظن بأنبياء الله ورسله أن يروا الشرك في قومهم ومن أرسلوا إليهم فيسكتوا، وهل بعثوا إلا لينهوهم عن هذا الشرك ؟!