الثاني: أن من تأمل كلام هارون لقومه وجواب قومه عنه وحواره مع موسى عرف ذلك، فقد قال ابن كثير في "تفسيره": (وشرع يلوم أخاه هارون فقال: (ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعن) أي: فتخبرني بهذا الأمر أول ما وقع (أفعصيت أمري) أي: فيما كنت تقدمت إليك، وهو قوله: (اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين)...
ولهذا قال: (يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي) هذا اعتذار من هارون عند موسى في سبب تأخره عنه، حيث لم يلحقه فيخبره بما كان من هذا الخطب الجسيم قال (إني خشيت) أن أتبعك فأخبرك بهذا، فتقول لي: لم تركتهم وحدهم وفرقت بينهم (ولم ترقب قولي) أي: وما راعيت ما أمرتك به حيث استخلفتك فيهم) أ.هـ
الثالث: وإن سلمنا أن هذا وقع من هارون فإن هذا شرع من قبلنا، وهو ليس شرعاً لنا ما دام قد جاء شرعنا بخلافه، فالمعلوم من هديه صلى الله عليه وسلم تبيين طرق الشرك وأنواعه ووسائله ومخاطره، على أنه يمكن أن نقول أيضاً إن موسى لم يقره على هذا.
قال الطاهر بن عاشور في تفسيره "التحرير والتنوير": (وتضمن هذا قوله: (إني خشيت أن تقول فرّقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي)، وكان اجتهاده ذلك مرجوحاً لأن حفظ الأصل الأصيل للشريعة أهم من حفظ الأصول المتفرعة عليه، لأنّ مصلحة صلاح الاعتقاد هي أم المصالح التي بها صلاح الاجتماع، ...ولذلك لم يكن موسى خَافياً عليه أن هارون كان من واجبه أن يتركهم وضلالهم وأن يلتحق بأخيه مع علمه بما يفضي إلى ذلك من الاختلاف بينهم) أ.هـ
والخلاصة أن هارون خشي الفرقة الناشئة من سيره ببعض بني إسرائيل وتركه البعض الآخر لأن هذا خلاف ما عهد به موسى إلى هارون استخلافه عليهم جميعاً، وليست الفرقة الناشئة من إنكار الشرك فإنه قد أنكره.
المبحث الثالث: دعواهم أننا اليوم في ظروف نحتاج فيها إلى أن نغض الطرف عن الدعوة إلى التوحيد، والتحذير من مظاهر الشرك:
أقول: وظاهر هذه المقالة أن هذه الظروف لم يمر بها الإسلام وأهله قبل اليوم، فكأن تكالب الأعداء علينا إنما هو وليد هذا العصر، وهذا قول من لم يعرف سيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ولا طريقته صلى الله عليه وسلم في دعوته إلى التوحيد، بل من لا يعرف طريقة الرسل عامة.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد مر بأسوأ من هذه الظروف بكثير، فقد تكالب على الإسلام وأهله جميع أصناف المشركين، ومع هذا فقد كان صلى الله عليه وسلم كان يربي الناس في كل الظروف على العناية بالتوحيد والحذر من الوقوع فيما يناقضه.
وسار على ذلك أصحابه رضي الله عنهم في وقت تكالب فيه اليهود والنصارى والمجوس والمرتدون وغيرهم من أصناف الناس عليهم من كل مكان، بل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهاهم عن الوقوع في الشرك في وقت المعارك والقتال وهو وقت أحوج ما تكون الأمة فيه إلى اجتماع الكلمة وتوحد الصف لملاقاة عدوهم من الكفار.
روى الترمذي في "جامعه" عن أبي واقد الليثي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى غزوة حنين مر بشجرة للمشركين كانوا يعلقون عليها أسلحتهم يقال لها ذات أنواط فقالوا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سبحان الله هذا كما قال قوم موسى (اجعل لنا إلها كما لهم آلهة) والذي نفسي بيده لتركبن سنن من كان قبلكم).
المبحث الرابع:
دعواهم أن هذا العصر تغيرت فيه معالم الشرك، فأصبحنا في شرك القصور، لا في شرك القبور:
والجواب عن ذلك أن يقال:
أولاً: إن نفيكم لشرك القبور في هذا الوقت ينادي عليكم بالجهل بهذا الواقع الذي تزعمون أنكم فقهاؤه والعارفون به، فإن بلاد المسلمين تعج وتضج بآلاف الأضرحة التي يفعل عندها من أصناف الشرك وألوانه ما لا يعلم به إلا الله.
ثانياً: ثم إن دعواكم أن هذا العصر ظهر فيه شرك القصور فإن كنتم تعنون به (الحكم بغير ما أنزل الله) فهذا والله دليل على جهلكم بالشريعة والتاريخ والواقع معاً، فيا سبحان الله ألم يأت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيئة تتحاكم إلى الأسلاف والأعراف والطواغيت في الدماء والأعراض والفروج ؟!
ألم يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في وقت كانت فيه فارس والروم والحبشة وغيرهم من الأمم تحكم فيه بغير ما أنزل الله ؟؟ فهل سمعتم أن رسول الله هون من الدعوة إلى التوحيد كما تهونون أنتم ؟! أو قسم لنا الشرك إلى شركين قبور وقصور، ذلك التقسيم الذي يحمل من ورائه تهميش دعوة الرسل والاعراض عنها، وهل سمعتم أنه انشغل بما ذكرنا من ذلك عن تعليم الناس ما بعثه الله به ؟!!
على أن الحكم بما أنزل الله إن كان هو المراد بقولكم: (شرك القصور) فهذا ليس على إطلاقه، والله أمر بالتوسط دائماً وفي كل شيء، فالمسألة فيها تفصيل عند أهل العلم ليس الموضع موضعها.
المبحث الخامس: قولهم: دعوتنا سلفية العقيدة، وعصرية المواجهة:
وهذه واحدة من الكلمات التي يتشدقون بها، ويعدونها من جوامع الكلم، وهي تحمل في طياتها السم الزعاف، فإنهم في بداية أمرهم كانوا لا يتشرفون بالانتساب إلى العقيدة السلفية، ويعدونها واحدة من أكبر أسباب الفرقة بين المسلمين، فلما لم يستجب لهم أحد، غيروا هذه النبرة إلى نبرة أخرى فقالوا: دعوتنا سلفية العقيدة وعصرية المواجهة، وهذه الكلمة كاذبة خاطئة، لأنها تتضمن التنقص من الدعوة السلفية من حيث شعروا أولم يشعروا، فهي تتضمن أن الدعوة السلفية لا تواجه أعداء عصرها هفي في نفسها مفتقرة إلى ذلك، فاحتاجوا إلى أن يزيدوا في الكلام: (عصرية المواجهة) فالجملة الأولى لا تكفي عندهم، لأن الدعوة السلفية تحمل العقائد الصحيحة، والأخلاق العالية، لكنها لا تواجه أعدائها !!
فهذه الجملة بمنزلة قول القائل: (شرعنا إسلامي بثوب عصري) وهذه العبارة على أقل الأحوال تتضمن التنقص من الإسلام من حيث شعر القائل أو لم يشعر حيث تتضمن أن الإسلام عصوره أخرى غير هذا العصر، وهذا غير ما تحتمله هذه العبارة من التستر على الانحرافات.
ثم إن هذا من أدل الأدلة على جهل هؤلاء القوم بالواقع المعاصر وإن زعموا أنهم فقهاؤه !! لأن الفرق والطوائف التي خرجت على مذهب أهل السنة، ودار بينها وبين أهل السنة من الردود ما نعلمه ويعلمه أكثر المسلمين، هذه الفرق ما زالت إلى اليوم موجودة وقائمة ولها مدارس تدرس مذاهبها، ولها انتشار في ربوع العالم الإسلامي، وكل الطوائف العصرية اليوم إنما هي اليوم منشقة عنها ومنبثقة منها.
ثم هم يقصدون بعصرية المواجهة الدخول في العمل السياسي، ومنازعة الأمر أهله، ومزاحمتهم على كراسيهم، والكلام عليهم من على المنابر، وتتبع زلاتهم، هكذا يقصدون !!
فهل هذه هي دعوة الرسل ؟! وهل هناك أحد من الأنبياء دعى إلى هذا ؟!
وعلى كل حال فكل شبهة أثاروها على الدعوة التوحيد فإنما يثيرونها على أنفسهم، وعلى دعوتهم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
انتهت الحلقة الأولى من (دروس في التوحيد)،
وسيتبعها بإذن الله الحلقة الثانية في (حقيقة التوحيد) بإذن الله تعالى.
كتبه: أبو عمار علي الحذيفي.
عدن / اليمن.
منقول